المجمع العلمي العربي بدمشق...أكثر من 100 عام من العطاء

يُعد مجمع اللغة العربية بدمشق أقدم مجمع للغة العربية في الوطن العربي حيث تأسس في شهر حزيران سنة 1919 ميلادية، ليكون مرجعاً علمياً لإحياء اللغة العربية واستعادة هيبتها بعد أن خفَتَ بريقها إبان الفترة التي كانت اللغة التركية هي اللغة الرسمية للبلاد.

فبعد قيام الحكومة العربية في دمشق سنة 1918، واجهت الحكومة الجديدة تحديات عدة وكان منها قضية اللغة العربية، حيث كانت التركية هي لغة البلاد الرسمية ولغة التدريس، وكان الموظفون الأتراك يرأسون معظم المصالح والدوائر الحكومية وكان هناك ضعف في العربية بين الموظفون العرب، فأنشأت الحكومة الوليدة شعبة للترجمة والتأليف، أقرب ما تكون إلى الوزارة في زماننا هذا، وكان من مهام هذه الشعبة العناية بأمر اللغة العربية ونشر الثقافة بين الموظفين وتعريب المصطلحات التركية في دوائر الدولة. استعان الكيان الجديد بأساتذة اللغة العربية وأدباءها واستحدث دروساً خاصة للموظفين لتعلم الإنشاء العربي ومراجعة الكتب القديمة لتعريب المصطلحات وتقرير الأساليب الفصيحة بشكل يليق بالحكومة العربية. ثم أصبحت هذه الشعبة تعرف بديوان المعارف وترأسها الأستاذ محمد كرد علي في 12 شباط 1919 ميلادي حيث وكل إليها النظر في أمور المعارف والتأليف وتأسيس دار آثار والعناية بالمكتبات.

نهض الديوان بهذه المهمة وبدأ بتصحيح الكتب المدرسية وإنشاء المدارس وتعيين المعلمين والنظر في القوانين المتعلقة بالمعارف وترجمتها والعناية بأساليب التربية الحديثة والاهتمام برفع شأن العربية في المدارس. ونظراً لاتساع أعمال ديوان المعارف، قسمت الحكومة العربية في دمشق الديوان إلى قسمين في سنة 1919، اختص الأول بأعمال المعارف العامة، واختص الثاني بأمور إصلاح اللغة العربية، وتنشيط التأليف والتعريف، والإشراف على المكتبات والآثار، وسُمي هذا القسم "المجمع العلمي العربي" في شهر حزيران من عام 1919 ميلادي، وعُهد برئاسته إلى محمد كرد علي، وكان هذا إيذانًا بميلاد مجمع اللغة العربية في دمشق. وضمّ المجمع عند تأسيسه عددًا من فحول اللغة والأدب في ذلك الحين، وهم: محمد كرد علي، وأمين سويد، وأنيس سلوم، وسعيد الكرمي، ومتري قندلفت، وعيسى إسكندر معلوف، وعبد القادر المغربي، وعز الدين علم الدين، والشيخ طاهر الجزائري.

أخذ المجمع على نفسه مهمة النهوض باللغة العربية وإصلاحها ووضع ووضْع ألفاظٍ للمستحدثات العصرية، وتنقيح الكتب، وإحياء المهم مما خلفه الأسلاف منها، والتنشيط على التأليف والتعريب، وكان له أثر كبير في تعريب مؤسسات وهيئات الدولة وتعريب التعليم وإنشاء المدارس في سوريا والدول العربية. وقد كان أعضاء المجمع يعقدون جلساتهم في إحدى الغرف العلوية بدار الحكومة العربية، حتى تسلم المجمع مبنى المدرسة العادلية القديمة؛ فقام بترميمها وإعادتها إلى طرازها العربي القديم، وعقد أولى جلساته فيها في (3 من ذي القعدة 1337هـ الموافق ل 30 من يوليو 1919م)، ثم أصدر المجمع أهدافه في بيان نشره تضمن ما يلي:

• النظر في اللغة العربية وأوضاعها العصرية، ونشر آدابها وإحياء مخطوطاتها، وتعريب ما ينقصها من كتب العلوم والصناعات والفنون من اللغات الأوربية، وتأليف ما تحتاج إليه من الكتب.
• العناية بجمع الآثار القديمة، وخاصة العربية والمخطوطات القديمة الشرقية والمطبوعات العربية والإفرنجية، وتأسيس دار كتب عامة.
• جمع الآثار القديمة عربية وغير عربية، وتأسيس متحف لها.
• إصدار مجلة للمجمع لنشر أعماله وأفكاره؛ لتكون رابطة بينه وبين دور الكتب والمجامع العلمية، وعلى الفور أتبع المجمع القول بالعمل؛ فعمد إلى ترجمة المصطلحات الإدارية إلى اللغة العربية، وبعث بها إلى رؤساء الدواوين ورجال الصحافة لاستعمالها، وقام بترجمة وتنقيح كثير من القوانين، وإصلاح الكتب المدرسية، واستعان بأهل الاختصاص من أساتذة المعاهد العليا للعمل على وضع المصطلحات الفنية الحديثة التي تستعملها مدرستا الطب والحقوق.

وقد نهض المجمع منذ بداياته بالمهام الملقاة على عاتقه فباشر بشراء المخطوطات النادرة والكتب العربية والأجنبية حتى بلغ مجموع الكتب التي جمعها زهاء 3000 كتاب. كما اهتم المجمع أيضاً بجمع الآثار، فجمع منها ألوف النفائس ما بين تماثيل حجرية وأوان معدنية وزجاجية وخزفية، ومجاميع نقود ذهبية وفضية ونحاسية، وأسلحة وصفائح حجارة مكتوبة، وأدوات أخرى مختلفة. ومن هذه الآثار ما هو ذو شأن عظيم قد لا يوجد نظيره في كثير من المتاحف: من ذلك سيف أبي عبيدة بن الجراح فاتح دمشق رضي الله عنه، ودينار ذهب ضرب في عهد الخليفة محمد المهدي بن المنصور العباسي بتاريخ /167هـ/ إلخ. وقد ألف المجمع من أعضائه لجنتين: لجنة لغوية أدبية تبحث في لغة العرب وآدابها وطرق ترقيتها، ولجنة علمية فنية تبحث في توسيع دائرة العلوم والفنون في سورية.

أقام المجمع العلمي في دمشق النشاطات الثقافية الكثيرة لنشر الفصحى في زمن لم يكن فيه وسائل إعلام مرئية أو مسموعة، فنظم المحاضرات وتزايد إقبال الناس على حضورها رجالاً ونساءً وكانت تتناول موضوعات علمية وأخلاقية وأدبية. وكان المحاضرون من أعضاء المجمع أو من أدباء العربية من سوريا ومن الدول العربية الأخرى وكذلك المستشرقين. كما نظم المجمع مهرجانات شعرية وأدبية.

وكان من المهمات التي نهض بها المجمع إصلاح الكتب وإحالة الكتب المدرسية على المجمع العلمي العربي ليصحح أسلوب إنشائها ووضع ألفاظ للمستحدثات العصرية وتعريب الألفاظ في دوائر الدولة ومعاهد التدريس ونشر الكتب وإلقاء المحاضرات والاهتمام بثقافة المرأة وتقديم المحاضرات لهن. كما نهض المجمع بتطوير المكتبات وتوفير الكتب لها وكان منها المكتبة الظاهرية في دمشق وتزويدها بالكتب والمخطوطات بالإضافة إلى الاهتمام بالآثار وإنشاء متحف خاص بالمجمع وتزويده بالآثار النفيسة. كما ساهم المجمع بتأسيس جامعة سورية مؤلفة من المجمع العلمي ومعهدي الطب والحقوق ومدرسة الآداب التي صدر بلاغ تأسيسها في شهر حزيران 1923 ميلادي.

أصدر المجمع مجلة خاصة به عرفت باسم مجلة المجمع العلمي العربي، صدر العدد الأول منها في شهر ربيع الآخر سنة 1339 هجرية، يناير/كانون الثاني 1021 ميلادية، ولا تزال هذه المجلة تصدر حتى اليوم. كما اعتنى المجمع بإحياء التراث العربي وأصدر العديد من الكتب التي قام المجمع بإحيائها وكان أهمها تحقيق كتاب تاريخ مدينة دمشق لابن عساكر.
وأصدر في سنواته الأولى كتبًا علمية مختصة باللغة العربية وزود المكتبة الظاهرية بدمشق بكتب ومخطوطات، ونظم فعاليات لإلقاء المحاضرات وإصلاح الكتب التي عرضها مؤلفوها على المجمع، وأسهم بتأسيس الجامعة السورية في عام 1923.

وفي بداية القرن الحادي والعشرين صدر القانون /38/ بتاريخ /29/ أيار سنة 2001م الذي حدد هوية المجمع وأغراضه ومهامه ومنها:

• المحافظة على سلامة اللغة العربية وجعلها وافيةً بمطالب الآداب والعلوم والفنون وملائمةً لحاجات لحياة المتطورة.
• وضع المصطلحات العلمية والفنية والأدبية والحضارية ودراستها وفق منهجية محددة والسعي في توحيدها ونشرها في سورية والوطن العربي.
• العناية بالدراسات العربية التي تتناول تاريخ الأمة العربية وحضارتها وصلتها بالحضارات الأخرى.
• العناية بإحياء تراث العرب في العلوم والفنون والآداب تحقيقاً ونشراً.
• النظر في أصول اللغة العربية وضبط أقيستها وابتكار أساليب ميسرة لتعليم نحوها وصرفها وتوحيد طرائق إملائها وكتابتها والسعي في كل ما من شأنه خدمة اللغة العربية وتطويرها وانتشارها.
• الحد من استفحال العامية في مختلف المجالات.
• النظر في كل ما يرد إلى المجمع من موضوعات تتصل بأغراضه.

يتألف المجمع من عشرين عضوًا عاملاً من سوريا، يشكلون لجان المجمع، مثل: لجنة المخطوطات وإحياء التراث، ولجنة المصطلحات، ولجنة المجلة والمطبوعات، ولجنة اللهجات العربية المعاصرة، ولجنة ألفاظ العربية. وإلى جانب هؤلاء الأعضاء العاملين يوجد عدد غير محدود من الأعضاء المراسلين من العرب أو من غيرهم، وقد ضمّ المجمع منذ إنشائه كوكبة من أعلام اللغة والأدب في العالم العربي، من أمثال: مصطفى لطفي المنفلوطي، وأحمد تيمور، وحافظ إبراهيم، والرافعي، والمازني، والعقاد والزيات، وطه حسين من مصر. والطاهر بن عاشور وحسن حسني عبد الوهاب من تونس. والزهاوي، ومعروف الرصافي ومحمد رضا الشبيبي من العراق. وإسعاف النشاشيبي وخليل السكاكيني وعادل زعيتر من فلسطين. ولويس شيخو، وأمين الريحاني، وشكيب أرسلان من لبنان، وحمد الجاسر من السعودية.

وقد تعاقب على رئاسة المجمع منذ إنشائه عدد من كبار الأدباء والعلماء في المشرق العربي من بينهم الأستاذ محمد كرد علي والشاعر الأديب خليل مردم بك والأستاذ مصطفى الشهابي والأستاذ حسني سبح والأستاذ شاكر الفحام. ويرأس المجمع حالياً الدكتور مروان المحاسني وذلك منذ عام 2008 ميلادي، ولا يزال المجمع يقوم برسالته في خدمة اللغة العربية، وإحياء التراث العربي، ووضع المصطلحات الجديدة للمستحدثات الجديدة.